الثلاثاء، 7 يونيو 2011

كُنتُ هناك..



التقطتُ هذه الصّورة الأسبوع الماضي خلال تواجدي في اﻻعتصام- التخييم المقام في ساحة أوبرادوير, الساحة الرئيسية في مدينة سانتياغو, حيث أقيم. ما زال اﻻعتصام- التخييم, و الذي يطالب بـ "ديمقراطيّة حقيقيّة الآن..!", قائماً حتّى هذه اللحظة, و إن كان المنظمون يتدارسون رفعه و تغيير شكل اﻻحتجاج لضمان استمرار ديناميكيته.
البناء الضخم الذي يُشاهد في الأفق هو مبنى تاريخي شُيّد كمشفى للحجّاج القادمين إلى كاتدرائية سانتياغو, و تم تحويله منذ أكثر من قرن إلى فندق باسم "الملوك الكاثوليك" (و هو اﻻسم الذي يطلق على الملكين فرناندو و إيزابيل, الذين "حرّرا" غرناطة و موّلا اكتشاف أميركا), و هو أحد أفخم و أعرق الفنادق في شمال إسبانيا, و تملكه شركة عامّة تدير عدداً من الفنادق و المرافق السياحية ذات الطابع التاريخي في اسبانيا, و قد نجت هذه الشركة, برفقة عدد قليل آخر من الشركات العامة, من موجات الخصخصة المتعاقبة خلال العقدين الأخيرين, و إن يبدو من الصعب جداً أن تنجو من موجة الخصخصة المقبلة, و التي ستأتي في إطار "إصلاح تقشفي" شديد يشكّل جزءاً مما يحتج "الغاضبون" ضدّه في كل أنحاء اسبانيا.
أردتُ في لقطتي أن أصوّر جزءاً من المخيّم (الذي يحوي الآن حوالي 70 خيمة) مع الفندق الفخم كأفق, و أعتقد أن كلّ من ذهب إلى المخيّم بقصد تصويره التقط ذات الصّورة التي تُظهر خيماً بسيطة منصوبة على حجارة الساحة بالقرب من فندق فخم يحوي جناحاً ملكيّاً ﻻ يُفتح إﻻ لرؤساء الدول. لم يكن اختيار اللقطة ناتجاً عن "فهلوة" أو "شطارة" من أي نوع, بل ربما ليست, بإظهارها مفارقات فخامة الأغنياء بنضال الفقراء, إﻻ كليشيهاً رومانتيكياً آخراً من الطراز المألوف في هذا النوع من الاحتجاجات, و المكرر حتّى انتهاء المفعول. انتهاء المفعول ﻻنتهاء المشاعر, ليس إﻻ.
أمرٌ آخر مألوف.. مألوف لدرجة أن هناك تقريباً خمسة ملايين نسخة, هم عدد العاطلين عن العمل في اسبانيا الآن, هو وضع أحد القابعين في المخيّم منذ إنشائه في الخامس عشر من الشهر الماضي: حائز على شهادتين جامعيتين و "ماستر" و دخل الآن مرحلة صياغة أطروحة الدكتوراه, و لم يجد منذ تخرّج عملاً إﻻ في وظيفة إدارية مؤقتة بدوام جزئي و راتب ﻻ يصل إلى 400 يورو, أي أن راتبه بأكمله بالكاد يكفيه لحجز غرفة متواضعة في الفندق الشامخ خلف خيمته لليلة واحدة فقط.
لعقودٍ خلت, و ما زالت هذه العادة مستمرة, كانت إحدى الهدايا المحترمة في أعراس الطبقة الوسطى في المدينة هي حجز جناح للعروسين في هذا الفندق الفخم كي يمضيا فيه ليلة الزفاف (أو ليلة الدخلة, كما نعرفها عربياً). ﻻ أدري إن كان الشاب الذي أتحدث عنه من سانتياغو, لو كان كذلك فلربما أمضى والداه ليلة زفافهما في الفندق الفخم, و لعلّهما التقطا صوراً في بهو الفندق الفخم أو في الجناح الفاخر كي يعرضوها على أصدقائهم و أقربائهم و أبنائهم و أحفادهم, ليقولوا "كنّا هناك". بالتأكيد لم يكن يدور بمخيّلتهم أن ابنهم سيخيّم يوماً في الساحة التي يطل عليها الفندق ليطالب بحقوقه و ليحتج على ممارسات طبقة سياسية- اقتصادية تأكل أحلامه. غالباً هو الآخر سيلتقط لنفسه صورة أو أكثر في المخيّم, داخل خيمته و أمامها و بجانب اللافتات اﻻحتجاجية, كي يقول مستقبلاً: “كنتُ هناك".
هل كانت كاميرات الـ "بولارويد" قد اخترعت في أيار الـ 68؟
كم فيلماً احترق في تلك الكاميرات الفوتوغرافيّة ما قبل الديجيتاليّة مضيعاً على أصحابه متعة النظر إلى صورةٍ بعد فترة و القول:”كنت هناك" أو "كنّا هناك"..
ربما يقترب بعض نزلاء الفندق الفخم و يلتقطون لأنفسهم أمام المخيّم صورة "كنا هناك", أو ربما صوّر المعتصمون أنفسهم مستقبلاً في منتجع فخم أو فندق أو قصر, إن دارت عجلة الدنيا بهم باتجاه الحظ. كم من كبار موظفي البنوك و الشركات الكبرى في فرنسا شاركوا في ذلك الربيع الباريسي الصراخ و الآﻻم و الآمال مع آلاف الحالمين الآخرين؟ هل التقطوا يومها صورة "كنت هنا"؟ هل يعرضون هذه الصورة اليوم في مكاتبهم الفارهة؟
صور "كنت هنا" المتداخلة, المتضادة, المتناقضة, المتنافرة, المتحاربة, المتخاصمة... ليست في الواقع إﻻ تفصيلاً صغيراً آخر يؤكد أن الحياة ليست أرشيف مصنفات مرتبة حسب اللون و الطعم و الرائحة, أو بتسلسل أبجدية معانيها, و في هذا التمرد على المنطق نجد ملمس متعتها, المتمنّعة غالباً, لكن ما يهم في النهاية هو أن نتمكن من التقاط صورة "كنا هناك" حين تنسى الحياة تمنّعها و تستسلم لأحلامنا.
..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق